تتردد في صدور بعض الأمهات، وسواء ظلت مكتومة أو خرجت إلى العلن، فإنها تنكّد عيشهنّ وتقض مضاجعنّ.. أمهات حائرات، بين فلذات أكبادهنَّ وما يحتاجون إليه من رعاية واهتمام، وبين متطلبات العمل التي جعلتهنَّ يركنَّ إلى الخادمات. وإذا كانت الأم العاملة معذورة (أحياناً) إن تركت أبناءها بعض الوقت للخادمة، فما مبرر الأمهات اللواتي لا يعملن، وينشغلن بالصالونات والحفلات والأحاديث الهاتفية ويتركن (الجمل بما حمل) للخادمة؟
هل أصبحت الخادمة أماً بديلة يصحو الطفل وينام بين يديها، ويتعلق بها ويناديها: ماما؟ وما هو شعور الأم الحقيقية تجاه ذلك؟ وكيف سيكون وضع الجيل القادم الذي لم يتذوق حنان الأمهات بل تربى في أحضان غريبة؟
يقول سالم راشد: إن ترك الأبناء مع الخادمة لتقوم على تربيتهم ورعايتهم أمر في غاية الخطورة، فالاستعانة بالخدم قد تكون ضرورة اجتماعية لدى البعض، لكن وجود الخادمات بهذه الإعداد في كل البيوت سببه التقليد الأعمى والمباهاة أو شعور بالنقص وليس لحاجة فعلية. وللأسف أن الأضرار السلبية لا يتم اكتشافها من قبل الوالدين إلا في وقت متأخر يتعذر معه تصحيح الجريمة التي ارتكبت في حق هؤلاء الأطفال الأبرياء، فأطفالنا الآن يعرفون لغة الخادمة أكثر من لغة الأم، ويتشبهون بها في كل تصرفاتها لأنهم يقضون الفترة الأطول معها.
بمحض الصدفة سمعت سميرة عبد الله طفلها البالغ من العمر 3 سنوات ينادي الخادمة ماما ، ولم تتمالك أعصابها فضربته على فمه، وحذرته من التفوه بهذه الكلمة مرة أخرى، تقول: بالطبع، شعرت بالتوتر والقلق فأنا أولى بكلمة ماما . ولم يخطر في بالي أبداً أن طفلي يمكن أن ينادي أحداً غيري ماما ، لكنني موظفة وأضطر لتركه معها، ماذا أفعل؟
أحرص عند عودتي من العمل على أن يكون أبنائي معي، لكن ابني الصغير متعلق بالخادمة ويقضي أكثر وقته معها، فهي تلاعبه وترعاه وتتحدث معه أكثر مني، إلا أنني لم أتوقع أن يصل الأمر إلى هذا الحد.
و لا تتردد شيخة حاجي في إدانة الأمهات: كنت أترك ابنتي مع الخادمة رغم أنني غير موظفة، ولاحظت تعلق ابنتي بها، فهي تحبها وتتحدث معها وتفضل النوم معها، وإذا جاعت تذهب إليها وكأنني لست أمها. استمر الحال على ذلك فترة طويلة حتى سمعت ابنتي تقول للخادمة: أنت ماما وأنا أحبج وايد ، في هذه اللحظة شعرت بالألم يعتصر قلبي وبأن وجودي مثل عدمه. وسألت نفسي هذا السؤال الذي توجهينه إلي، والإجابة: نحن الأمهات، فقد تركنا الحبل على الغارب للخادمات ليلبين حاجات أبنائنا بينما نحن منشغلات بحياتنا، والآباء أيضاً مسؤولون لأنهم غالباً مشغولين عن أسرهم وعيالهم.
من جهته يقول أحمد سعيد نجيم: حاجة بعض الأمهات إلى الوظيفة جعلت الطفل لا يجد بجانبه سوى الخادمة التي أصبحت أمه بالنيابة عن أمه الحقيقية. لقد أدى وجود الخادمة في البيت إلى ضعف ارتباط الطفل بوالديه كليهما، فضلاً عن إعاقة نموه الذاتي، وهناك بعض الأمهات يعتمدن اعتمادا كليا على الخادمة، فهي التي تعنى بالطفل حتى إذا مرض، وتأخذه إلى المدرسة وتحضره منها بينما الأم نائمة في سريرها، والغريب أنهن بعد كل هذا الإهمال ينزعجن من الطفل إذا نادى الخادمة: ماما، والأحرى أن يسألن أنفسهن عن السبب الذي جعله يسلك على هذا النحو.ويشن إبراهيم عبد العزيز هجوما عنيفا على هذا النوع من الأمهات: أسمع الكثير من الحكايات عن الأمهات اللواتي ينشغلن بأنفسهن ويتركن شؤون أطفالهن للخادمات، لكن ما لا أنساه موقفا حدث معي أثناء ذهابي بطفلي المريض إلى عيادة الأطفال: رأيت خادمة تحتضن طفلا في الثالثة من العمر يعاني حمى شديدة وحرارته مرتفعة، ولما سألها الطبيب عن أمه أجابت بأنها ذهبت إلى الصالون، فهل وصلت اللامبالاة إلى هذا الحد؟ كيف استطاعت هذه الأم الجاحدة أن تترك طفلها المريض لدى الخادمة بينما هي تتجمل وتتزين.
ويتساءل عبد الرحمن أحمد: هل باتت الخادمة أكثر حناناً من الأم؟ هل أصبحت الخادمة أرحم على الطفل ممن حملته تسعة أشهر في جوفها؟
ويجيب: بعض الأمهات هذه الأيام ينشغلن بأحاديث القهوة مع الصديقات والجارات، ويتحدثن ساعات في الهاتف بينما الخادمة هي التي تعتني بالأطفال، والنتيجة هي ضياع الأبناء، لأنهم لا يجدون التوجيه السليم، فيتصرفون بطرق لا يعلمون إن كانت صحيحة أو خاطئة لأنهم لم يوجهوا أو يربوا التربية السليمة.
أخيراً، لا بد من رأي متخصص لإيضاح الآثار الاجتماعية والتربوية الخطيرة الناجمة عن هذه المشكلة، تقول الأخصائية النفسية فاطمة سجواني: الأسرة هي النواة الأساسية في تشكيل شخصية الطفل وغرس المبادئ والقيم والمثل العليا في نفسه، فعندما يربى الطفل تربية سليمة وسويّة يكون سلوكه سوياً وشخصيته متزنة. وقد أكدت التربية الحديثة أهمية السنوات الأولى في حياة الطفل، ويكون مولعاً بتقليد من حوله، فإن لم يجد أمامه سوى الخادمة فستكون هي مثاله الذي يقتبس منه سلوكه وتصرفاته. وتضيف السجواني: صحيح أن ظروف انشغال الوالدين بتوفير متطلبات الحياة العصرية للأبناء جعل وجود الخادمة ضرورياً، وصحيح أن الكثير من الأمهات العاملات مجبرات على الاستعانة بالخادمة في أعباء البيت، لكن هذا لا يبرر الاعتماد الكامل عليها في تربية الأطفال وإطعامهم واستحمامهم وأداء واجباتهم المدرسية والجلوس معهم طوال الوقت، لأن الطفل في هذه الحالة سيشعر بالدفء والأمان والحنان عند الخادمة، فتصبح هي الأم البديلة وهنا تكمن الخطورة. فالخادمة غير مهيأة لمهام التربية فلا هي أم ولا هي تربوية، وينبغي أن يقتصر عملها على التنظيف وترتيب المنزل ومساعدة ربة البيت في الطهي وما شابه.__________________